فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{ذلك لهم خزي في الدنيا} أي ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي.
والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح.
والخزي الحياء عبر به عن الافتضاح لما كان سببًا له افتضح فاستحيا.
{ولهم في الآخرة عذاب عظيم} ظاهره أن معصية الحرابة مخالفة للمعاصي غيرها، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة تغليظًا لذنب الحرابة، وهو مخالف لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة «فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له» ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب، والعقاب في الآخرة إنْ سلم في الدنيا من العقاب، فتجري معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي.
وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب، ولكنْ في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم، واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابًا أيضًا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيًا أيضًا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشدّ من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من ارتكب شيئًا فعوقب به كان كفارة له» فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وههنا حقان لله تعالى والعباد، ونظر فيه. اهـ.

.قال في البحر المديد:

فرق كبير بين من يرجع إلى الله بملاطفة الإحسان، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى الله حتى أُخذوا وقُتلوا وصُلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم. وإن رجعوا إليه اختيارًا قبلهم، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم، وكذلك العباد: من رجع إلى الله قبل هجوم منيته قَبِله وتاب عليه، وإن جد في الطاعة قرَّبه وأدناه، وإن تقدمت له جنايات، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص، كالفضيل، وابن أدهم، وغيرهما، ممن لا يحصى، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. اهـ.

.قال القاسمي:

قال السيوطى في الإكليل:
قال ابن الفرس: ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له، كما تكون في سائر الحدود.
وقال العارف الشعرانى في «ميزانه»:
سمعت شيخنا، شيخ الإسلام زكريا- رحمه الله- يقول: لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا إلا المحاربين، لقوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}.
السعي في الفساد على ضربين: بالظاهر وعقوبته معلومة في مسائل الفقه بلسان العلم، وفي الباطن وعقوبته واردة على الأسرار، وذلك بقطع ما كان متصلًا من واردات الحق، وكسوف شمس العرفان، والستر بعد الكشف، والحجاب بعد البسط. والحجاب استشعار الوحشة بعد الأُنْس، وتبديل توالي التوفيق بصنوف الخذلان، والنفي على بساط العبادة، والإخراج إلى متابعة النفوس، وذلك- واللهِ- خِزْيٌ عظيم وعذابٌ أليم. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا}.
اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه الحكم فيهم، وهذا قول ابن عباس.
الثاني: أنها نزلت في العُرَنِيِّينَ ارتدوا عن الإِسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبله، وهذا قول أنس بن مالك، وقتادة.
والثالث: أنها نزلت إخبارًا من الله تعالى بحكم من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا.
واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه الزنى والقتل والسرقة، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المِصْر وغيره، وهذا قول الشافعي، ومالك، والأوزاعي.
والثالث: أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر في المِصْر، وهذا قول أبي حنيفة، وعطاء الخراساني.
{أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض} جعل الله هذا حكم المحارب، وفيه قولان:
أحدهما: أنها على التخيير وأن الإِمام فيهم بالخيار بين أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفي، وهذا قول سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم.
والثاني: أنها مرتبة تختلف على قدر اختلاف الأفعال: أن يقتلوا إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي.
وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك العرنيين وهم من بجيلة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإِخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل افرج فاصلبه.
أما قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ} فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أوجه:
أحدها: أنه نفيهم وإبعادهم من بلاد الإِسلام إلى بلاد الشرك، وهو قول أنس: والحسن، وقتادة، السدي، والزهري، والضحاك، والربيع.
والثاني: أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير.
والثالث: أنه الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والرابع: هو أن يطلبوا لتقام الحدود عليهم فيُبْعَدُوا، وهذا قول ابن عباس، والشافعي، والليث بن سعد.
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فيه ستة أقاويل، أحدها: إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم في الأرض فسادًا بإسلامهم، فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حدًا وجب عليهم، وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة.
الثاني: إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم، فأما التائب بغير أمان فلا، وهذا قول عليّ عليه السلام، والشعبي، وروى الشعبي أن خارجة بن زيد خرج محاربًا فأخاف السبيل، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، وجاء تائبًا من قبل القدرة عليه، فقبل عليّ توبته وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دم ومال.
والثالث: إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلمًا ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، وهذا قول عروة بن الزبير.
والرابع: إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته، وإن لم يكن له فئة يمتنع بها [وتاب] لم [تسقط] عنه توبته شيئًا من عقوبته، وهذا قول ابن عمر، وربيعة، والحكم بن عيينة.
والخامس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين، وهذا قول الشافعي.
والسادس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء، وهذا مذهب مالك. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
قوله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله}.
اقتضى المعنى في هذه الآية كون {إنما} حاصرة الحصر التام، واختلف الناس في سبب هذه الآية، فروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن تكون نازلة بني قريظة حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة، والحسن: نزلت الآية في المشركين.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ضعف، لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال، وقال أنس بن مالك وجرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم: إن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة، وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها. فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الرعاء واستاقوا الإبل فجاء الصريخ فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر فنودي في الناس يا خير الله اركبي، فركب رسول الله على أثرهم فأخذوا، وقال جرير بن عبد الله فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى إذا أدركناهم، وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال جميع الرواة فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، ويروى وسمل، وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون، وفي حديث جرير، فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعدما قتلهم، قال أبو قلابة، هؤلاء كفروا وقتلوا وأخذوا الأموال وحاربوا الله ورسوله، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ووقفت الأمر على هذه الحدود، وقال بعضها وجعلها الله عتابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سمل الأعين، وحكي عن جماعة من أهل العلم أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في المرتدين.
قال القاضي أبو محمد: لاسيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاة قالوا، وهذا الآية هي في المحارب المؤمن، وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عن ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف تخالفه الروايات المتظاهرة، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، واختلفوا فيمن هو الذي يستحق اسم الحرابة، فقال مالك بن أنس رحمه الله، المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة، وقال بهذا القول جماعة من أهل العلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل العلم، لا يكون المحارب إلا القاطع على الناس في خارج الأمصار، فأما في المصر فلا.